يحاول الإسرائيليون مرة أخرى البحث عن كتلة نيابية متماسكة وتستحوذ على أغلبية مقاعد الكنيست (السلطة التشريعية) بعدما أظهرت الانتخابات التي جرت مؤخراً تشتتاً إسرائيلياً يحول دون تشكيل حكومة تحظى بثقة أغلبية النواب، فهل هي أزمة إسرائيلية أم هي أزمة المرحلة كما الديمقراطية والتقاليد السياسية الحديثة التي تبلورت في الثورة الصناعية وصارت تواجه تحديات في عصر ما بعد الصناعة، أو ما صار يسمى أحياناً الثورة الصناعية الرابعة؟
دخلت إسرائيل منذ عام 1977 في مرحلة تصدع سياسي، عندما نجح حزب الليكود (المعارض تاريخياً) في انتزاع أغلبية مقاعد الكنيست من حزب «العمل» الذي أسس وقاد الحركة الصهيونية في أواخر القرن التاسع عشر، ثم واصل قيادته لدولة إسرائيل منذ عام 1948، وبعض المحللين والدارسين يردّ التصدع السياسي الإسرائيلي إلى حرب 1967، ذلك أنه انتصار لم يكن يريده الآباء المؤسسون لإسرائيل كما لم يكونوا يريدون الحرب، لكنها كانت مغامرة الجنرالات الإسرائيليين الذين أغوتهم معرفتهم وتقديراتهم الاستخبارية بفرص الانتصار على الدول العربية، وهي على أي حال مسألة تستحق وقفة خاصة بها في الذكرى الثانية والخمسين للحرب.
وانتقلت الحياة السياسية الإسرائيلية إلى نزاع قاسٍ ومرير بين الحزبين السياسيين الرئيسيين «العمل» و«الليكود»، لكنه نزاع أدخل الأحزاب والدولة في حالة انقسام عميق، ثم اختفى حزب «العمل» من الحياة السياسية والعامة، وانقسم «الليكود» ثم استطاع نتنياهو أن يقود تجمعاً من الكتل والأحزاب اليمينية والأصولية المتطرفة، لكنه تحالف تفكك أيضاً، وهكذا فقد الإسرائيليون الأغلبية كما فقدوا الإجماع، ودخلوا في مرحلة جديدة من الشتات.
لقد بدا واضحاً أن إسرائيل منذ عام 1995 عندما اغتال متطرف إسرائيلي (إيجال عامير) رئيس الوزراء الإسرائيلي اسحق رابين في إشارة إلى الدخول في مرحلة من هيمنة التطرف، أو هي أزمة الحركة الصهيونية شأن جميع الحركات والأفكار القومية التي ازدهرت في القرن التاسع عشر، وبدأت تواجه الفناء، ولعلها أيضاً حالة عالمية ربما تعكسها إسرائيل أو هي الأسرع والأكثر تأثراً بها، وهي فقدان الاتجاهات والفلسفات السياسية التقليدية قدرتها على التأثير في اتجاهات الناس نحو صناديق الانتخابات. وفي هذا التشتت صعدت الأصوليات الدينية واليمينية. لكنها أيضاً تتعرض للانهيار والتصدع. فهي بطبيعة الحال تعكس الخوف والقلق أكثر مما هي استجابة أصيلة تقدم برامج ومبادرات سياسية واجتماعية.
يقول «زئيف ستيرنهل» مؤلف كتاب الأساطير المؤسسة لإسرائيل إن الصهيونية التي أنشأتها وقادتها الحركة العمالية في المجتمع اليهودي استخدمت منظومة ذات توليفة من الأفكار والأيديولوجيا القومية والاشتراكية، لكنها توليفة متناقضة ومنسحبة أيضاً، صعدت في سياق صعود القوميات التاريخية والعرقية والدينية في أوروبا وتنحسر اليوم بانحسارها، وفي ذلك فإن الأفكار والأحلام تحولت بسرعة إلى أزمة اجتماعية بسبب التخلي عن الوعود بالمساواة، فرغم دعاوى الاشتراكية لدى الحركة العمالية أقيم مجتمع على غرار الرأسمالية الغربية يضج بالفروق الاقتصادية والاجتماعية والطبقية.
والحال أن الصهيونية كانت ردة فعل أكثر مما هي استجابة حقيقية لمواجهة الشعور اليهودي بالخوف، وما بدا أنه إنقاذ للأمة والذات اليهودية يبدو اليوم أزمة يهودية جديدة، ففي صعود النزعة الفردية وانتهاء العداء الوجودي لليهود تبدو إسرائيل وكأنها تخوض حرباً مع طواحين الهواء، وتهدر مواردها في الوهم، أو في بذل الجهد الخارق لتحويل الوهم إلى حقيقة، وليس ذلك بالطبع سوى تأجيل لاستحقاقات المرحلة والأزمات. وعلى عكس ما يظن معارضو السلام والتسوية السياسية للصراع العربي الإسرائيلي، فإن السلام يمثل تحدياً لإسرائيل أكثر من العرب والفلسطينيين، بل إنه يمنح أمم المنطقة فرصة للدخول في مرحلة جديدة تحتاج إلى تعاون أو تنافس اقتصادي وعلمي أكثر من صراع عسكري لم يعد يريده أحد.
يدرك نتنياهو اليوم أن تحالفه مع الأصوليات الدينية لم يكن سوى لعب في الوقت الضائع، ويفضل أن يتخلى عن هذه المغامرة، فمشروع «السلام الاقتصادي» الذي توافق النخب السياسية الإسرائيلية ومنها «ليكود» على الانخراط فيه كان مجدياً ومفيداً في وقف العنف والخسائر أكثر من المواجهة العسكرية، وصارت الجماعات اليهودية المتطرفة عبئاً على إسرائيل أكثر من الجماعات الفلسطينية المعارضة للسلام، بل إن المجتمع الإسرائيلي يأخذ اتجاهات في تشكلاته وتحالفاته تبدو مفاجئة، إذ يتشارك اليهود المعتدلون والعلمانيون مع الفلسطينيين أكثر من اليهود المتطرفين، الذين تحولوا إلى كتل اجتماعية وسكانية غير مندمجة، وإذا أضيف لذلك الفجوات والفروق الثقافية والاقتصادية والاجتماعية وما تنشئه من أزمات كبرى في الهوية والاتجاهات السياسية والانتخابية، فإنه يمكن القول إن إسرائيل تمثل حالة دراسية أو تجربة للتفكير والتقدير في مستقبل جميع الأمم، إذ الحاضر يتهاوى، والمستقبل لم يتشكل بعد.. وهذه إحدى أزمات العصر.
*كاتب وباحث أردني
دخلت إسرائيل منذ عام 1977 في مرحلة تصدع سياسي، عندما نجح حزب الليكود (المعارض تاريخياً) في انتزاع أغلبية مقاعد الكنيست من حزب «العمل» الذي أسس وقاد الحركة الصهيونية في أواخر القرن التاسع عشر، ثم واصل قيادته لدولة إسرائيل منذ عام 1948، وبعض المحللين والدارسين يردّ التصدع السياسي الإسرائيلي إلى حرب 1967، ذلك أنه انتصار لم يكن يريده الآباء المؤسسون لإسرائيل كما لم يكونوا يريدون الحرب، لكنها كانت مغامرة الجنرالات الإسرائيليين الذين أغوتهم معرفتهم وتقديراتهم الاستخبارية بفرص الانتصار على الدول العربية، وهي على أي حال مسألة تستحق وقفة خاصة بها في الذكرى الثانية والخمسين للحرب.
وانتقلت الحياة السياسية الإسرائيلية إلى نزاع قاسٍ ومرير بين الحزبين السياسيين الرئيسيين «العمل» و«الليكود»، لكنه نزاع أدخل الأحزاب والدولة في حالة انقسام عميق، ثم اختفى حزب «العمل» من الحياة السياسية والعامة، وانقسم «الليكود» ثم استطاع نتنياهو أن يقود تجمعاً من الكتل والأحزاب اليمينية والأصولية المتطرفة، لكنه تحالف تفكك أيضاً، وهكذا فقد الإسرائيليون الأغلبية كما فقدوا الإجماع، ودخلوا في مرحلة جديدة من الشتات.
لقد بدا واضحاً أن إسرائيل منذ عام 1995 عندما اغتال متطرف إسرائيلي (إيجال عامير) رئيس الوزراء الإسرائيلي اسحق رابين في إشارة إلى الدخول في مرحلة من هيمنة التطرف، أو هي أزمة الحركة الصهيونية شأن جميع الحركات والأفكار القومية التي ازدهرت في القرن التاسع عشر، وبدأت تواجه الفناء، ولعلها أيضاً حالة عالمية ربما تعكسها إسرائيل أو هي الأسرع والأكثر تأثراً بها، وهي فقدان الاتجاهات والفلسفات السياسية التقليدية قدرتها على التأثير في اتجاهات الناس نحو صناديق الانتخابات. وفي هذا التشتت صعدت الأصوليات الدينية واليمينية. لكنها أيضاً تتعرض للانهيار والتصدع. فهي بطبيعة الحال تعكس الخوف والقلق أكثر مما هي استجابة أصيلة تقدم برامج ومبادرات سياسية واجتماعية.
يقول «زئيف ستيرنهل» مؤلف كتاب الأساطير المؤسسة لإسرائيل إن الصهيونية التي أنشأتها وقادتها الحركة العمالية في المجتمع اليهودي استخدمت منظومة ذات توليفة من الأفكار والأيديولوجيا القومية والاشتراكية، لكنها توليفة متناقضة ومنسحبة أيضاً، صعدت في سياق صعود القوميات التاريخية والعرقية والدينية في أوروبا وتنحسر اليوم بانحسارها، وفي ذلك فإن الأفكار والأحلام تحولت بسرعة إلى أزمة اجتماعية بسبب التخلي عن الوعود بالمساواة، فرغم دعاوى الاشتراكية لدى الحركة العمالية أقيم مجتمع على غرار الرأسمالية الغربية يضج بالفروق الاقتصادية والاجتماعية والطبقية.
والحال أن الصهيونية كانت ردة فعل أكثر مما هي استجابة حقيقية لمواجهة الشعور اليهودي بالخوف، وما بدا أنه إنقاذ للأمة والذات اليهودية يبدو اليوم أزمة يهودية جديدة، ففي صعود النزعة الفردية وانتهاء العداء الوجودي لليهود تبدو إسرائيل وكأنها تخوض حرباً مع طواحين الهواء، وتهدر مواردها في الوهم، أو في بذل الجهد الخارق لتحويل الوهم إلى حقيقة، وليس ذلك بالطبع سوى تأجيل لاستحقاقات المرحلة والأزمات. وعلى عكس ما يظن معارضو السلام والتسوية السياسية للصراع العربي الإسرائيلي، فإن السلام يمثل تحدياً لإسرائيل أكثر من العرب والفلسطينيين، بل إنه يمنح أمم المنطقة فرصة للدخول في مرحلة جديدة تحتاج إلى تعاون أو تنافس اقتصادي وعلمي أكثر من صراع عسكري لم يعد يريده أحد.
يدرك نتنياهو اليوم أن تحالفه مع الأصوليات الدينية لم يكن سوى لعب في الوقت الضائع، ويفضل أن يتخلى عن هذه المغامرة، فمشروع «السلام الاقتصادي» الذي توافق النخب السياسية الإسرائيلية ومنها «ليكود» على الانخراط فيه كان مجدياً ومفيداً في وقف العنف والخسائر أكثر من المواجهة العسكرية، وصارت الجماعات اليهودية المتطرفة عبئاً على إسرائيل أكثر من الجماعات الفلسطينية المعارضة للسلام، بل إن المجتمع الإسرائيلي يأخذ اتجاهات في تشكلاته وتحالفاته تبدو مفاجئة، إذ يتشارك اليهود المعتدلون والعلمانيون مع الفلسطينيين أكثر من اليهود المتطرفين، الذين تحولوا إلى كتل اجتماعية وسكانية غير مندمجة، وإذا أضيف لذلك الفجوات والفروق الثقافية والاقتصادية والاجتماعية وما تنشئه من أزمات كبرى في الهوية والاتجاهات السياسية والانتخابية، فإنه يمكن القول إن إسرائيل تمثل حالة دراسية أو تجربة للتفكير والتقدير في مستقبل جميع الأمم، إذ الحاضر يتهاوى، والمستقبل لم يتشكل بعد.. وهذه إحدى أزمات العصر.
*كاتب وباحث أردني